الرسوم المتحركة اليابانية: نحو متابعة واعية

في القسم الجديد من موقعنا، نسعى لتسليط الضوء على الأنمي كنوع من “اللقاح” الثقافي. فلا نهدف إلى تشجيع المتابعة العشوائية أو جذب جمهور جديد بشكل أعمى، بل نحرص على تزويد عشّاق الأنمي بأدوات التحليل والنقد، لفهم ما يشاهدونه، وتفكيك المحتوى، وتمييز الجيد من الرديء، مع الحفاظ على التوازن الفكري والأخلاقي.

الرسوم المتحركة اليابانية: فن وثقافة

لم تكن بداية الأنمي مجرد رسوم متحركة عادية، بل كانت حركة ثقافية نشأت من قلب اليابان للتعبير عن الذات بأسلوب فني موازٍ للرسوم المتحركة الأمريكية، تطوّر منذ بدايات القرن العشرين حتى أصبح ظاهرة عالمية. يتميز الأنمي بأسلوبه الفني الفريد، وقصصه المتنوعة التي تجمع بين المغامرة والدراما والفلسفة والكوميديا والتراجيديا والخيال. هذا التنوع جعله وسيلة ترفيهية وثقافية مؤثرة في أفكار ومشاعر المتابعين. وعلى عكس الرسوم المتحركة الغربية التي غالبًا ما تستهدف الأطفال، يخاطب الأنمي فئات عمرية متعددة، ويطرح قضايا عميقة مثل الهوية، والأخلاق، والصراعات الإنسانية. ومع ذلك، قد يتضمّن محتوى يتعارض مع القيم الإسلامية، سواء من خلال الإيحاءات غير اللائقة، أو العنف المفرط، أو تبني قيم ثقافية مغايرة.

فلسفة الترفيه المرئي: بين الماضي والحاضر

في الماضي، كان الترفيه يعتمد على القصص الشفوية التي تُروى في المجالس، سواء كانت قصصًا واقعيةً، أو أساطير شعبية، أو خيالًا من وحي الراوي. وكان المتلقي يشارك بخياله، ويرسم تفاصيل الأحداث في ذهنه، مما يُحفّز الإبداع والتفكير. أمّا الأنمي والمحتوى المرئي الحديث، فيُقدّمان القصة بشكل مكتمل من حيث الصورة والصوت والحبكة، مما يُقلّل من حاجة المتلقي لاستخدام خياله أو الاعتماد عليه.

هذا “الاحتكار” للتجربة قد يجعل الأنمي أكثر جاذبيةً، لكنه في الوقت نفسه قد يؤدي إلى تعطيلٍ مؤقت لبعض وظائف العقل، خاصة عندما ينغمس المتابع في الحبكة دون تفكير نقدي. وكما يصف بعض عشاق الأنمي حالتهم أحيانًا: “مندمج في المسلسل”. هذا الاندماج قد يجعل المتابع عرضةً لاستيعاب رسائل (إيجابية كانت أم سلبية) دون تحليل وافٍ. فمثلًا، بينما تُعلّم أعمال مثل Fullmetal Alchemist قيم الأخوّة والتضحية، قد تُروّج ذات الأعمال لسلوكيات أو طقوس من دياناتٍ أخرى كالبوذية.

التأثير الثقافي: الأنمي كمرآة ومؤثر 

يُنظر إلى الأنمي منذ مطلع القرن الحالي بوصفه انعكاسًا للثقافة اليابانية، وفي الوقت ذاته كأداة مؤثرة في ثقافات أخرى. فعندما يصل هذا المحتوى من ثقافات مختلفة إلى مجتمعاتنا، مع ضعف الاهتمام بثقافتنا المحلية والجهل بها، قد ينتج عن ذلك شكل من أشكال التماهي والانغماس في الثقافات الأخرى، مما يؤدي تدريجيًا إلى نوعٍ من الانسلاخ الثقافي. وهذا يشبه ما كان يُنتجه الاستعمار الناعم في القرن الماضي، كما حدث عندما استعمرت هولندا إندونيسيا، إذ لم تكن تهدف لتغيير دين الإندونيسيين أو معتقداتهم مباشرة، بل سعت لخلق جيل إندونيسي جديد يشرب كما يشرب الهولنديون، ويفكر كما يفكرون، لتصبح إندونيسيا نسخة من هولندا لكن بملامح شرقية.

وإلى جانب التماهي الثقافي، قد يظهر ما يُعرف بـ”النبوءة ذاتية التحقق”، حيث يبدأ المحتوى كتعبير عن ثقافة معينة، ثم يكتسب شعبية، فيزداد قبول المجتمع له، ما يؤدي إلى تعزيز انتشاره في دائرة مفرغة. على سبيل المثال، أصبح الأنمي الذي يركز على التحديات الغريبة أو المحتوى الإيحائي يجذب شرائح واسعة من الجمهور في الآونة الأخيرة.

بين الترفيه والمخاطر: تحديات محتوى الأنمي

لا يخفى على أحد وجود جوانب في محتوى الأنمي تستدعي الحذر والانتباه، خصوصًا من منظور إسلامي. وفيما يلي سنتطرق إلى بعض هذه الجوانب:

العنف المفرط والتطبيع معه

تتضمن الكثير من أعمال الأنمي مشاهد قتالية وصراعات عنيفة. ورغم أن العنف في سياق درامي خيالي يختلف عن الواقع، إلا أن التعرض المستمر له قد يؤدي إلى تطبيع فكرة العنف أو تقليل حساسية المشاهد تجاهه مع كثرة مشاهد الدماء والتقطيع، خاصةً في تصنيفات معينة. كما أن بعض الأعمال تقدم فكرة “القوة هي الحق” بشكل مبالغ فيه وغير متوازن.

الإيحاءات والمشاهد غير اللائقة

تتمحور شريحة من الأعمال حول مشاهد فيها ابتذال أو خدش للحياء، مثل مشاهد العُري الجزئي أو الملابس غير المحتشمة بشكل مبالغ فيه، أو مواقف الحب الجسدية الصريحة. هذه الأمور تتعارض بشكل واضح مع قيم الحياء والعفة في ثقافتنا. يكمن الخطر في أن التكرار والاعتياد يؤديان تدريجيًا إلى تبلّد الحس الأخلاقي على المدى الطويل. لذا يُفضل تجاوز هذه الأعمال أو على الأقل عدم الاسترسال في مشاهدتها دون وعي، مع الحرص على اختيار الأعمال التي تهمش هذا الجانب ولا تجعله محورًا رئيسيًا للقصة.

الأفكار الفلسفية والعقدية الدخيلة

يحمل بعض الأنمي أفكارًا فلسفية معقدة أو معتقدات دينية مستمدة من ثقافات أخرى، مثل مفهوم تناسخ الأرواح، أو تعدد الآلهة، أو الإلحاد، أو مفاهيم روحية غامضة. قد يتأثر المشاهد دون قصد بهذه الطروحات إذا لم يكن ملمًّا بأسس عقيدته. على سبيل المثال، قد تُقدم بعض الأعمال فكرة القدر بصورة تناقض الإيمان بالقضاء والقدر في الإسلام، أو تُصوّر عالمًا بلا دين بطريقة جذابة. هذا الجانب يُعد من أخطر ما يمكن أن يواجهه المشاهد، ليس فقط في المحتوى المرئي بل حتى في الكتب الأجنبية. لذا فالتعامل الصحيح يكون عبر تفكيك هذه الأفكار وبيان تناقضها مع الرؤية الإيمانية.

القيم والسلوكيات الاجتماعية الغريبة

تعكس كثير من الأنميات القيم الاجتماعية في مجتمعات غير مسلمة (كاليابان أو الغرب)، وتتضمن سلوكيات ليست من بيئتنا. مثل تصوير العلاقات العاطفية المفتوحة في سن المراهقة كأمر عادي، أو تمرد مبالغ فيه على الوالدين والمعلمين، أو تبني نظرة مادية للحياة. هذه الاختلافات الثقافية قد تُربك الشاب المسلم إذا لم يكن واعيًا بجذورها. لذا من المهم تسليط الضوء على ما يتعارض مع قيمنا، والتأكيد على أن ليس كل ما يُعرض طبيعيًا أو مقبولًا بالضرورة في ميزان الثقافة الإسلامية.

إدمان المشاهدة والعزلة الاجتماعية

ينجذب الكثيرون إلى عوالم الأنمي لدرجة قد تجعلهم يفضلونها على الواقع. متابعة المواسم الطويلة دفعة واحدة قد تؤدي إلى إهمال الواجبات الدراسية أو الصلاة أو صلة الرحم. كما أن الانغماس الشديد في القصص الخيالية قد يدفع البعض إلى العزلة وضعف التواصل الاجتماعي خارج دائرة محبي الأنمي. من هنا تأتي أهمية الحديث عن إدارة الوقت والاعتدال.

نصائح لأجل متابعة واعية

يمكن اعتبار قسم الأنمي في موقعنا “لقاحًا فكريًا”، حيث نعرض الأعمال ونحلل مكوناتها من القيم الإيجابية والرسائل المثيرة للجدل، ونزود المتابع بأدوات الوعي لمواجهة التأثيرات الثقافية. لا نسعى لمنع الشباب من متابعة الأنمي، فهجر المحتوى المرئي قد لا يكون عمليًا في عصر الشاشات. هدفنا تمكينهم من متابعة واعية تجمع بين الاستمتاع بالفن وتقليل الآثار السلبية قدر الإمكان.

وننصح أنفسنا وإياكم عند متابعة المحتوى المرئي عمومًا والأنمي خصوصًا بتبني نهج واعٍ من خلال ثلاث نصائح عملية:

1. الانتقاء بعناية

اختر الأعمال التي تحمل قيمًا إيجابية أو رسائل مفيدة، مثل My Teen Romantic Comedy الذي يناقش مسائل الهوية والعلاقات الإنسانية، مع تجنب ما يحتوي على إيحاءات متكررة. لا تتوقع من محتوى لم يصنعه المسلمون أن يتوافق تمامًا مع ثقافتك وقيمك، لذا من الحكمة اختيار الأعمال الأكثر نفعًا والأقل ضررًا، والاستعانة بآراء الجمهور لتقييم الأعمال قبل مشاهدتها.

2. وضع حدوداً زمنية

لا تسمح للأنمي أو المُلهيات الأخرى بالسيطرة على وقتك. خصص ساعات محددة أسبوعيًا أو يوميًا، وامنح الأولوية لأهدافك الدراسية أو المهنية. يمكن متابعة الأعمال الموسمية التي تُعرض حلقة واحدة أسبوعيًا لتجنب المشاهدة المفرطة.

3. مناقشة بعد المشاهدة

شارك أفكارك مع الأصدقاء ممن يشاركونك نفس الاهتمامات. لا تترك الأفكار حبيسة نفسك، فالمشاركة تزيد من فرص تحليل الرسائل بوعي نقدي، مع الحرص على عدم الاقتصار على مناقشة الأحداث التفصيلية فقط.

تساؤلات في ذهن القارئ

بعد هذا الطرح، قد يتبادر إلى ذهن القارئ تساؤل، سواء كان من المؤيدين لما نطرحه ويراه صائبًا، أو من المخالفين الذين يرون أننا لم نُحسن التقدير.

فمن بين المعترضين، قد يرى بعضهم أن الأولى ترك هذا النوع من المحتوى تمامًا، طالما يحوي كمًا كبيرًا من المخالفات، والتفرغ لما هو أنفع وأكثر فائدة. ونحن بدورنا لا نختلف مع هذا الرأي من حيث المبدأ، بل نقرّ بأنه الحل الأبسط، بل وربما المثالي. غير أن الواقع لا يتيح للجميع القدرة على تطبيقه دون حرج أو مشقة، فليس كل الناس سواء في قدرتهم على الاعتزال أو الانعزال.

نحن نعيش في زمن تهيمن فيه المرئيات والشاشات الإلكترونية على حياتنا، ولا يكاد يمر يوم إلا ويُعرض علينا محتوى مرئي – سواء كان نافعًا أو تافهًا، عابرًا أو مؤذيًا. ومن رحمة الإسلام وحكمته أنه يوجّهنا دائمًا للتركيز على ما هو مهم وعملي، لا على ما هو مثالي وصعب المنال. فليس المطلوب منا أن ننعزل في الجبال والكهوف لننجو من مساوئ العصر، بل أن نركّز على ما هو أقرب إلى الصواب، وأكثر قابلية للتطبيق. والأعمال اليابانية، بطبيعتها، لا تخلو من السلبيات، لكنها (كما نزعم) من أقل منتجات الترفيه ضررًا مقارنة بغيرها، وهذا ما يدفعنا إلى تسليط الضوء عليها.

ومن سنن الحياة أن الناس تختلف في طرق تعاطيها مع المؤثرات المحيطة. فهناك من يستطيع أن يعتزل تمامًا، وهناك من يجد في ذلك مشقة لأسباب مهنية أو عائلية أو نفسية أو بيئية، وهناك من يرى أن الطريق الوسط هو الأقرب، فينتقي ما قلّ ضرره وكثر نفعه، ويغض الطرف عن ما لا يُمكن اجتنابه بالكامل. وهذا منهج نبوي أصيل؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكلّف الناس إلا بما يقدرون عليه، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري:

حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال وأخبرني يوسف بن ماهك قال إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال أي الكفن خير قالت ويحك وما يضرك قال يا أم المؤمنين أريني مصحفك قالت لم قال لعلي أولف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف قالت وما يضرك أيه قرأت قبل إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار  حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده قال فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور

صحيح البخاري 4707

من يلاحظ اليوم حجم الأنشطة والتجمعات المرتبطة بالأنمي والتي تُقام في منطقتنا والدول العربية، يدرك أن الحاجة لتوضيح وتوعية هذه الشريحة الشابة بما تشاهده أصبحت أمرًا ضروريًا، حتى إن لم يكن ذلك هو الحل المثالي، فهو أضعف الإيمان، وأوسط الطرق.

على الجانب الآخر، هناك من يرى أن هذا النوع من المقالات مبالغ فيه، وأنه يتابع هذه الأعمال وهو واثق بأنها لا تؤثر عليه، أو لا يتأثر منها إلا بما يريد. لكن علم النفس والاجتماع يخبرنا أن الوعي وحده لا يحمي دائمًا من التأثر، بل أحيانًا يكون الإنسان أكثر عرضة لتسرّب التأثيرات إلى لاوعيه دون أن يشعر.

فالمحتوى المتراكم يومًا بعد يوم كقطرات صغيرة قد يُحدث أثرًا عميقًا لا يظهر مباشرة، بل يتراكم حتى يترك بصمته على القيم والتصورات والسلوك؛ لأن الدراسات النفسية تُظهر أن التأثير يمكن أن يقتحم اللاوعي بخفّة، دون أن نشعر. على سبيل المثال، يظهر تأثير التعرّف البسيط (Mere Exposure Effect) أنّ تكرار التعرض لفكرة أو صورة أو نمط سلوك يرسّخ القبول تجاهه، ليس بناءً على اقتناع منطقي، بل لأن الدماغ يربط المألوف بالأمان والارتياح.

أما نظرية الزراعة الإعلامية (Cultivation Theory) المطروحة من قِبل جربنر، فقد أوضحت كيف أن التعرّض المستمر لمحتوى معين – مثل العنف أو الصور النمطية – يُشكّل تصوراتنا عن الواقع، ويسبّب ما يسمى بـ”متلازمة العالم العنيف”، بحيث يبدأ العقل في اعتقاد أن العالم أخطر مما هو عليه فعليًا.

بناءً عليه الوعي بالمحتوى ونقده ليس أمراً هامشيًا، بل يجب أن ننتبه إلى تراكم هذه المئات من القطرات التي تبلل العقل اللاواعي يومًا بعد يوم.

منذ أن دخل الأنمي الساحة العالمية عبر شهرة Astro Boy قبل عقود، وحتى عصر الشهرة العالمية التي وصلها Demon Slayer، وبين هذين العملين طيف واسع من الأعمال الفنية المتألقة التي جمعت بين الشهرة والفائدة. الأنمي فنٌ مبهر، زاخر بالفوائد، وقد يكون من أكثر المحتوى المرئي فائدة إذا أُحسن استخلاصها.

لكنه يحمل أيضًا تحديات تتطلب وعيًا ونُضجًا، لفهم الخلفية البوذية اليابانية، والتأثيرات الرأسمالية التي طغت على اليابان في العقود الأخيرة، فضلًا عن شوائب لا يتسع هذا المقام لتفصيلها.

في هذا القسم، نؤمن أن المتابعة الواعية هي مفتاح التوازن. اختاروا ما يضيف قيمة إلى حياتكم، وتذكّروا أن الوقت هبة من الله، فاستثمروه بحكمة. فانضموا إلينا في هذا القسم لنستكشف الأنمي بعيونٍ واعية، وشاركونا رؤاكم وأفكاركم عبر صندوق التعليقات. لنُثرِ هذا الجانب معًا، ولنحوّله إلى جسرٍ للفائدة.

وفي الختام، ما طرحناه ليس الخيار الوحيد أو المثالي، لكنه كما نزعم الأقرب للواقعية كخطوة أولى نحو حياة أقل تحكّمًا بقيود الدنيا. ومنا السعي، ومن الله التوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *