كيف يمكن لكلمات قيلت قبل أكثر من ألف عام، أن تفهمك أكثر مما تفهم أنت نفسك؟ وتعبر عنك حتى تكاد تقول أنها تتحدث عنك أنت؟
كيف لهذا الفقيه الذي كان ” شيخ الشافعية” في عصره أن يكتب شعرا بهذه الرقة والشفافية، فتسافر كلماته عبر القرون، وتسكن أصوات مئات المنشدين والمبتهلين، تعرفهم وتعرف من يسمعهم على صوت خفي في أعماقهم، وعلى كلمات دفينة في قلوبهم…
أبو إسحاق الشيرازي..غالبا لم يسمع أكثرنا باسمه اليوم،…لكنه كان يلقب بـ ” شيخ الدهر وإمام العصر”…سمعتم بالمدرسة النظامية في بغداد؟ بناها الوزير نظام الملك ” له”. أكرر ” بناها له”. هكذا جاء في المصنفات.كان أول من درس بها..وكان زاهدا، يتودد له الوزراء والخلفاء، وله عشرات المصنفات في المذهب الشافعي..
لكن كلمات كتبها في ليلة رقد فيها الناس، وبقي قلبه فيها يقظا يناجي ربه ويبتهل إليه، تلك الكلمات، هي اليوم غالبا ” أوضح” ما بقي منه….أكثر من كل ما نجا من مصنفاته…
هذا الرجل كان عظيما في زمانه، لا مقارنة بيننا وبينه..، لا نقترب ولو قليلا من مكانه ومكانته…لكنه رغم ذلك، مد يده إلى قلوبنا عابرا القرون والقارات واختلاف الأوضاع، وقال على لسانه ما يمكن أن نمر به كلنا…
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا **** وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا عدتي في كل نائبة ****ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أمورا أنت تعلمها **** ما لي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالضر مبتهلا **** إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة **** فبحر جودك يروي كل من يرد
نسمعها اليوم فنحملها قائمة همومنا وأوجاع قلوبنا والنغزات في صدورنا..
أم ليس أمامها إلا ابنها الذي انقطعت أخباره منذ أن أخذوه….أب يحمل هم ” مستقبل الأولاد” في بلد لا مستقبل له…زوجة تحمل هم إهمال زوجها.. فتاة تعدت ” السن” الذي يجعلها مقبولة للزواج حسب عادات مجتمعها ..ومغترب ومغتربة حققا كل أحلامهما بالخروج من ” هناك”، ثم اكتشفا أن أرض الأحلام يمكن أن تكون أرضا لكوابيس لم يحسبا حسابها يوم كانا هناك…
وآخر لو أراد أن يشرح لنا عما يشكيه…لاحتاج الأمر ربما إلى كتب…
كلها ” أمور هو يعلمها”…وكلها ” ما لنا على حملها صبر ولا جلد”..
النسخة الصوتية المنتشرة من الابتهال فيها تعديل ملفت للانتباه..
الأبيات الأصلية كانت ” لبست ثوب الرجا ” (وقد أديت من قبل كثيرين بهذه الصيغة بالفعل، وكانت تبث كثيرا من تلفزيون بغداد في السبعينات بصوت فدوى عبيد)، ولكن النسخة المنتشرة حاليا تستخدم عبارة ” طرقت باب الرجا” أو ” قصدت باب الرجا ” بدرجة أقل.
وللأمانة أجد أن ” طرقت باب الرجا” أو ” قصدت..” مناسبة أكثر لوضعنا الحالي…
أبو إسحاق الشيرازي لبس ثوب الرجا..أحاط به الرجاء من كل نواحيه وتلفلف به…أما نحن، فبين القصد والطرق،..ومحظوظ هو من لبس…
**
قبل ألف سنة، وبعد ألف سنة أيضا…
ستبقى الحاجة إلى الله جزءا جوهريا من حقيقتنا الإنسانية، لا شيء سيغير ذلك….سواء كنا في الكهوف أو في ناطحات السحاب، سواء عشنا ضمن فئة أصحاب الملايين أو تحت خط الفقر، سواء كنا في دول ” الضمان الاجتماعي” أو ” جمهوريات الموز”…سنبقى نمتلك تلك الحاجة إلى أن نقول له ” ما لي على حملها صبر ولا جلد”..لقد وصلنا إلى آخر ما عندنا….ليس لنا إلا هذا الرجاء….
يستطيع البعض أن يفسر هذا الاحتياج بما يشاء…يستطيع أن يعتبره مجرد ” عارض تطوري” أو يتحدث عن أثر ” إله الفراغات” ..ويستطيع أن يستعيض عنه بجلسة علاج نفسية أو حبة دواء ..
في النهاية، كلنا نكابر أحيانا…ونحن نعرف شكل المكابرة عندما تكون في سلوك الآخرين…
د. أحمد خالد توفيق
