بعد تخلي أوروبا عن الهوية الدينية إثر التحولات التي انتقلت بها من العصور الوسيطة إلى عصرها المادي، وقع حصر تعريف القيمة في حدود المادة، ولم يعد هناك اعتراف بكل ما يتجاوز المادة، ولا اعتبار لتلك القيم، فالحقيقة انفصلت عن القيمة، وانفصلت بالتالي الأخلاق عن القيمة، وألَّه الغرب العقل، باعتباره أرضية تقف عليها الحداثة، بالتالي تحوَّل الإنسان ذاته إلى كائن مادي يتفاعل تفاعلا ماديا مع ذاته وغيره وكلِّ ما حوله، ومع اكتشاف الانسان لبعض القوانين الطبيعية، سعى إلى تضييق المجهول مقابل توسيع المعلوم، متوهم بأنه سيصل لمرحلة العلم الشامل، والتي يصل معها إلى السيطرة الكاملة على العالم والتحكم الدقيق بكل ما فيه، وعلى هذا بنيت أطروحة موت التاريخ وغيرها.
لكن عصر الحداثة لم يف بوعوده التي أطلقها أنبياؤه، والتي عاش الغرب عقود في مجالها التنظيري، بل وقع عكس ما توقع هؤلاء، وجاء نيتشه الذي أعلن الفضيحة كاملة، أعلن عدمية وخواء وتيه هذه الحداثة، أعلن حيوانية النسخة الغربية للإنسان، وتوحشه، توحش عاينته هذه البشرية في الاستعمار الغربي وخروج تلك العقلية لاستباحة ونهب وتفقير بقية العالم، واستلاب إرادة الشعوب لصالح إرادة الغرب.
وإذا كانت الحداثة قد فككت الإنسان وأعادت تعريفه تعريفًا ماديًا، وحصرت القيمة في المادة، ووقفت على أرضية تأليه العقل، فإن ما بعد الحداثة، والتي هي إعلان لفشل الحداثة، جاءت بمفاهيم أشد توحشًا وعدمية، إذ تسعى ما بعد الحداثة إلى فصل المدلول عن المعنى، وترفض رفض شديدا الوقوف على أي أرضية، جاءت ما بعد الحداثة بمنهج تفكيكي يستهدف اللغة، اللسانيات، وتمركز العقل، في كل الميادين العلمية والقانونية والتفسيرية، فما بعد الحداثة هو تقديس ومنهجه للسفسطة العامة، لإلغاء كل الثنائيات المتبقية في حياة البشر، الذكر والأنثى، الخير والشر، العالم والجاهل… ومحاربة كل المسلمات (على اعتبار أنها مسلمات) التي بقيت من عصر الحداثة.
