النسوية الغربية: من الموت الأخلاقي إلى الموت الديموغرافي.

آلة كاتبة عليها كلمة Feminism، تعبير عن النسويّة الغربية وانعكاساتها الاجتماعية والديموغرافية

يظنّ البعض أن النسويّة مجرّد صراعٍ على الأدوار الاجتماعية أو مطالبة بحقوق معينة، لكنهم يغفلون عن وجهها الأخطر: تأثيرها البطيء والعميق في بنية المجتمع الديموغرافية، وما يترتّب على ذلك من تبعات اقتصادية، وثقافية، وسياسية.
لقد خاض الغرب هذه التجربة منذ أكثر من ستة عقود، وها هو يجني ثمارها طيلة العقدين الأخيرين. أما مجتمعاتنا العربية، فهي اليوم تحذو حذو المجتمعات الأوروبية، دون أن تتدارك عواقب التجربة، أو تقف بجدية أمام ما ظهر من آثار سلبية لتطبيق الأفكار النسوية والليبرالية في السياق الأوروبي.

ومنذ العقد الأخير، بدأت ملامح هذه التجربة تنعكس على واقعنا، فهل فات الأوان لتعديل المسار؟

في هذا المقال، سنعرض أولًا أثر التشريعات النسوية والليبرالية على المجتمع الأوروبي، لنُدرك بوضوح “ثمار أوروبا” التي تنتظرنا إن استمرت منظوماتنا الاجتماعية والتشريعية على حالها. فحاضر أوروبا، إن لم نتداركه، سيكون هو مستقبلنا القريب.

معدلات المواليد في معاقل النسويّة

  • بلغت معدل الخصوبة في دول الإتحاد الأوروبي 1.38 طفل لكل امرأة في عام 2023 وهى أدني من مستوى الإحلال والذي هو 2.1 (ومستوى الإحلال هو مستوى الأدني للجتمع في معدل المواليد حتى لا يكون عدد البالغين سن الشيخوخة أكثر من عدد المواليد) ويعتبر هذا المعدل في 2023 متدني للغاية حيث يمكن القول أنّ كلَّ جيلٍ جديد أصغر من سابقه بثلث سكانه تقريبًا. (1)
  • بينما بلغت اليابان معدل الخصوبة الى 1.2 طفل لكل امرأة في نفس العام 2023 وهذا ثامن عام تسجله اليابان رقما قياسيًا متدنيّا. (2)
  • أما في الولايات المتحدة أصبحت ذورة عمليات الإجهاض المعنلة 1.6 مليون عام 1990 أي حوالي 65 مليون منذ عام 1973 حتى 2020 وهذا الرقم من يعتبر أكثر من سكان دولة مثل فرنسا اليوم! وأيضا يفوق عدد قتلى الحرب العالمية الأولى! (3)

خلاصة ما نتوصّل إليه من الإحصاءات أن المنظومة التشريعيّة النسوية أعادت هندسة المجتمع ليُنجِب نصف ما يحتاجه لاستمراره.
وهذا يطرح تساؤلات جدّية حول نفعية هذه التشريعات للمجتمعات على المدى البعيد؛ فهي وإن كانت في ظاهرها تمنح الفرد أولوية قصوى، إلا أنها تجعل مستقبل المجتمع في أدنى سُلّم أولوياتها

التحوّل العِرقي في الولايات المتحدة

انخفضت نسبة البيض غير اللاتينيين في الولايات المتحدة من 88.6٪ عام 1960 إلى 75.6٪ عام 1990، ويتوقّع مكتب الإحصاء أن تهبط إلى 49.7٪ بحلول عام 2045، لتتحوّل البلاد إلى أقلّيّة بيضاء. ورغم أن الولايات المتحدة تُعدّ من أكبر التكتلات التي تضم أحزابًا محافظة ترفض استقبال اللاجئين، وتُعدّ الأعراق الأخرى خطرًا على مجتمعاتها وهويّتها، فإن المفارقة أن كثيرًا من القيم الأخلاقية السائدة فيها (والتي يتبنّاها التيار الليبرالي واليساري ) هي من الأسباب الرئيسية في هذا الانحدار الديموغرافي.(4)

ولهذا، يعارض كثير من المحافظين السياسات اليسارية التي تُشجّع على تمرير قوانين النسوية والليبرالية؛ إذ يرون أنها تُسهم في تراجع معدلات الإنجاب، وتفكّك الأسرة، وزيادة تدهور الإحصاءات السكانية، مما يُهدد مستقبل “الأغلبية البيضاء” بحسب نظرتهم، فتتولّد حلقةٌ مفرغة تَكبر معها شعارات اليمين المتطرّف بحثًا عن هويةٍ مهدَّدة بفعل اليسار وليس بفعل القوانين الهجرة والاجئيين.

مُعدلات الطلاق

مؤشرأوروبا 2023أمريكا 2022ملاحظات
معدّل الطلاق الخام (لكل 1000)20 لكل 1000 امرأة متزوجة14.6 لكل 1000 امرأة متزوجة (أربعةُ أضعاف 1900)(5)الذروة 1980 ثم انحدارٌ طفيف
نسبة الولادات خارج الزواج42٪ (متوسط EU‑27) 201840–41٪ (CDC)(6)كانت أقلّ من 10٪ 1970
نسبة المساكنة دون زواج(7) نموّ أسرع نمط أسرى بين 2015‑(2024يقابله تراجع الأزواج مع أطفال

من الأرقام أعلاه تتوضح أن حالات الطلاق بدأت في الإرتفاع بعد الحركة النسويّة في موجتها الثانية في الستينات، بينما ارتفاع الطلاق في أمريكا تزامن مع تعديل قوانين الممتلكات لتقسيم الثروة تلقائيًا، ما جعل الرجال (بخاصةٍ من الطبقة المتوسطة ) يتوجّسون من الزواج أصلًا والتوجه نحو العلاقات خارج إطار الزواج التي تكون عليه ماديًا أقل إلزماً وحفاظًا على ممتلكاته.

إجراءات مضادة للحد من الإنكماش الديمغرافي

حاولت أوروبا الحد من هذه النتائج لكن دون التعامل مع صلب المشكلة ألا وهى النسوية، فالنسوية قائمة على المساواة المطلقة في مناحي الحياة والتي منها العمل أنموذجًا، مساواة في نتاج العمل زمناً وأجرًا وترقيًا دون مراعاة أي اختلافات بيولوجية كالحمل والرضاعة والولادة، والذي يفرض على النسوية التعامل مع هذه الإختلافات إما بتأجيل الإنجاب أو إجهاضه قانونياً أو نقل رعاية الطفل الى حضانة أو مدارس داخلية فضًلا على تقليل الحد من الإنجاب، ولهذا مازالت ألمانيا تدفع حتى 22 ألف يورو إعانات للطفل الثالث ومازالت معدلها 1.4 بينما تُخصّص اليابان حاليًّا ميزانيةً مساوية لوزارة الدفاع لإنقاذ الولادات ولا تزال عند 1.2 وتعطي طوكيو اليوم إلى أسبوع عملٍ قصير كي تُقنع موظّفيها بإنجاب طفل إضافي.(9)

مؤشرات مبكرة في بلادنا العربية

أصبح معدل المواليد الخام في السعودية في عام 2020 إلى 16.6 ولادة لكل ألف، بعدما كان حوالي 47 ولادة لكل ألف قي عام 1980 ، حيث انخفض بشكل حاد خلال أربعة عقود فقط، وعلى هذا المنوال سيتجاوز مستوى الإحلال خلال العقود القليلة المقبلة.

في مصر وتونس والأردن ينخفض معدّل الخصوبة إلى حوالى طفلين للمرأة؛ أي على مشارف مستوى الإحلال. وهو أدنى مستوى منذ بدء الإحصاء الحديث(8)

تكاليف الزواج، بطالة الشباب، ونماذج “الاستقلال الفردي” المستوردة تشكّل مزيجًا مشابهًا لما حدث في أوروبا قبل أربعين عامًا. كل هذا يجعل مشروع الزواج في بلادنا العربية مشروع مؤجل إنشاءه ومجهول نجاحه.

ورغم الأرقام الرسمية مازالت الحكومات العربية غلا تعطي الجهود الكافية للتعامل مع هذه التغييرات الإجتماعية التي ستظهر جليًا في العقدين المقبليين، فالمسألة الديمغرافية ونسب الطلاق وتكوين العلاقات الزوجية المثمرة ليست من أهتمامات لا رؤية الحكومات لحتى عام 2030 ، وتجاهل هذا الجانب قد يهدد من فقدان أهم عوامل المميزة لنا عن الغرب في المستقبل القريب: قوة العاملة الشابة.

في الختام: تساؤلات

الغرب الذي صالَ وجالَ بالاستعمار، يجد نفسه اليوم أمام خطر انقراض ذاتي، حتى إن صعود التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا خلال السنوات الأخيرة يمكن وصفه بأنه محاولة لتجميد المسار الديموغرافي الهابط. لقد باتت بعض هذه المجتمعات في معركة وجودية لإبقاء ما تبقّى من عرقها الأبيض من خطر الفناء.

ولهذا، على من يروْن في التجربة الغربية نموذجًا للتحرر والتقدم، ويعتبرون تحرير المرأة إحدى أعظم إنجازاتهم، أن يُجيبوا على سؤال جوهري: لماذا أنجبت أوروبا، بعد الثورة الجنسانية، نصف ما كانت تنجبه قبلها؟

وإذا كان “الحق في الجسد” حقًا مطلقًا كما يُروَّج له، فبأي منطق نُجادِل في شرعية حياة الأطفال غير المولودين؟ هل لأنهم لم يُولدوا بعد، فهم ليسوا بشرًا؟ كأن المولود يحتاج أن يكتمل نموه، ونراه بأعيننا، حتى يُمنَح صفة الإنسانية، ويُعامل بحقوق الطفل؟

إنّ الأرقام من أدقّ العوامل في المنهج العلمي، لأنها تُمكِّننا من رؤية الظواهر وتأثيرها بلا أيّ مبهمات. وبين صياغة رؤيةٍ تُوازن بين كرامة الفرد وحاجة المجتمع إلى الاستمرار، ومن خلال الكتاب والسنة والاقتداء بهدي النبي في التعامل الاجتماعي، سندرك حينها أننا لا نحتاج إلى استيراد أيّ قيم أو تجارب من مجتمعات أخرى، وفي حوزتنا دينٌ أتمّه الله بالكمال. وعلينا أن نذكّر أن النبي أمرنا بالتكاثر، وأنه مباهٍ بنا الأمم يوم القيامة.

ولنذكُر دائمًا أنّ أوّل حضارةٍ تسقط هي تلك التي تتوقّف عن إنجاب أبنائها.

قائمة استشهادات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *